مقدمة
في زوايا العالم المتحضّر، هناك أماكن لا تشبه غيرها، أماكن تتحدى المنطق والمعايير، وتبقى في الذاكرة كبقع غامضة من التاريخ. إحدى هذه الأماكن هي “مدينة كولون المسوّرة” في هونغ كونغ.مدينة لا تشبه المدن، تحوي أكثر من 30 ألف نسمة متراصين في كتلة خرسانية كثيفة المساحة لا تتجاوز 2.6 هكتار. إنها واحدة من أكثر الأماكن كثافةً بالسكان في تاريخ البشرية.
كولون المسوّرة كانت مزيجًا من الفوضى والنظام الذاتي، الجريمة والبساطة، حياة يومية مختنقة بالأنوار الخافتة والممرات الضيقة، ومجتمعًا بنى حضارته الصغيرة داخل جدران معزولة عن العالم. وقد تحولت هذه المدينة إلى مصدر إلهام للعديد من الأفلام، الألعاب، والروايات التي صوّرت هذا المكان كرمز للحرية المفرطة أو الفوضى السحيقة.
نبذة تاريخية
-
أصل المدينة: بدأت كولون المسوّرة كحصن صيني في القرن التاسع عشر، بني لحماية المصالح الصينية بعد استيلاء البريطانيين على شبه جزيرة كولون في عام 1898. لكن بعد فترة قصيرة، أصبحت المدينة منطقة رمادية سياسياً لا تخضع لا للبريطانيين ولا للحكومة الصينية فعلياً.
-
التحول إلى مأوى عشوائي: بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ تدفق اللاجئين إلى المنطقة بشكل غير مسبوق، خصوصًا بعد الثورة الصينية. ومع غياب الرقابة الحكومية، بدأت المباني العشوائية بالارتفاع فوق بعضها البعض، حتى وصلت إلى ما يشبه الكتلة المتماسكة ذات الستين طابقًا في بعض المناطق.
الحياة داخل المدينة
الحياة في كولون كانت غير اعتيادية بكل المقاييس:
-
البنية التحتية: لا توجد خطط تنظيمية، ولا خدمات حكومية. الكهرباء والمياه كانت تُسرق من المناطق المجاورة. الأزقة كانت ضيقة لدرجة أن الشمس لم تكن تصل إلى الطبقات الدنيا.
-
السكان: رغم صعوبة الحياة، استقر في المدينة حوالي 30–40 ألف شخص بحلول الثمانينات، من بينهم عائلات، عمال، أطباء تقليديون، حرفيون، ومجرمون.
-
القانون والنظام: لفترة طويلة، كانت المدينة معقلاً للمافيا الثلاثية (الترايد)، حيث ازدهرت فيها الدعارة، القمار، وتجارة المخدرات. لكنها تحوّلت تدريجيًا إلى مجتمع ينظّم نفسه بنفسه، يضم مدارس، عيادات، وحتى مصانع صغيرة.
إزالة المدينة
في عام 1987، وبعد مفاوضات طويلة بين الصين وبريطانيا، تقرر إزالة المدينة بسبب ظروفها غير الصحية وارتباطها بالجريمة. بدأت عمليات الإخلاء في عام 1993، وتم هدمها بالكامل عام 1994، لتحل محلها حديقة “كولون المسوّرة” وهي مساحة خضراء هادئة تحتوي على بقايا تاريخية من الحصن الأصلي ، التي ما تزال حتى اليوم شاهدة على أسطورة حضرية لا تتكرر.
على الرغم من اختفاء المدينة ماديًا، إلا أنها لا تزال حية في الخيال الجماعي. ألهمت كولون المسورة جيلًا من الفنانين والمبدعين، الذين وجدوا فيها رمزًا للقدرة البشرية على التكيف والإبداع في أصعب الظروف.
كولون المسوّرة في الثقافة الشعبية
رغم زوالها، بقيت المدينة حاضرة في الخيال الجمعي العالمي، حيث ظهرت كرمز للفوضى، الحرية، أو المدينة المعمارية الخارجة عن السيطرة في عدد كبير من الأعمال الفنية.
1. في الأفلام
-
Bloodsport (1988) – فيلم من بطولة جان-كلود فاندام، حيث تتم البطولة القتالية السرية داخل كولون.
-
Crime Story (1993) – من بطولة جاكي شان، تم تصوير مشاهد حقيقية داخل المدينة قبل هدمها. يروي الفيلم قصة شرطي يحاول تفكيك شبكة إجرامية، وتظهر المدينة كخلفية مظلمة ومعقدة، حيث تتشابك الأزقة الضيقة مع مطاردات مشوقة. كانت مشاهد المدينة في الفيلم واحدة من آخر التسجيلات السينمائية لها قبل هدمها
-
Batman Begins (2005) – استُوحي مظهر مدينة “The Narrows” المظلمة من كولون.
-
Ghost in the Shell (1995) – الفيلم الأنمي الشهير اقتبس الكثير من طابع كولون المعماري والبيئي.
-
فيلم “Chungking Express” (1994) للمخرج وونغ كار واي، على الرغم من أن الفيلم لم يُصور مباشرة في كولون المسورة، إلا أن أجواء هونغ كونغ الحضرية المزدحمة في الفيلم مستوحاة جزئيًا من المدينة. تُظهر المشاهد الليلية والأضواء النيونية تأثيرًا واضحًا لجماليات كولون
2. في ألعاب الفيديو
-
Call of Duty: Black Ops – يظهر نمط من المدينة في خرائط اللعب.
-
Shenmue II – يقدم تجربة حقيقية داخل نسخة مطابقة تقريبًا لكولون، بكل تفاصيلها من الممرات والمباني المتراصة. على الرغم من إصدارها بعد هدم المدينة، استلهمت لعبة “Shenmue” أجواء كولون المسورة في تصميم بعض أحيائها الحضرية. تتضمن اللعبة أزقة ضيقة ومباني مكتظة، مما يعكس الكثافة الحضرية للمدينة
-
Stranglehold – لعبة من إنتاج جون وو، تعكس الطابع الفوضوي للمدينة.
-
Kowloon’s Gate (1997) – لعبة مغامرات يابانية تدور أحداثها في مدينة كولون، وتُعتبر من الأعمال الفنية البصرية الاستثنائية. هذه اللعبة اليابانية تُعدّ تكريمًا مباشرًا لمدينة كولون المسورة. تدور أحداثها في نسخة خيالية من المدينة، حيث يستكشف اللاعبون بيئة حضرية كثيفة مليئة بالغموض والأسرار. كانت اللعبة واحدة من أوائل الأعمال التي خلّدت المدينة في وسيط الألعاب
-
لعبة “Stray” (2022) – كما ذكر في منشور على منصة X، كانت مدينة كولون المسورة مصدر إلهام رئيسي لاستوديو BlueTwelve في تصميم المدينة في لعبة “Stray”. اللعبة، التي تتبع مغامرات قطة في مدينة مستقبلية، تعكس الأزقة المظلمة والمباني المتراصة التي كانت سمة بارزة في كولون. على الرغم من إصدار اللعبة بعد عقود من هدم المدينة، إلا أن تأثيرها الثقافي لا يزال واضحًا.
3. في الأدب والأنمي
-
Manga مثل “Akira” و”Blame!” – استوحت أفكارها المعمارية من كولون.
-
أعمال Cyberpunk – كثير من قصص السايبر بانك تدين لكولون بإلهامها لمفهوم المدينة التي تتحدى الدولة، والنظام.
المدينة كرمز فلسفي
كولون لم تكن فقط مجرد حي فقير، بل كانت رمزًا لفكرة مثيرة: “ماذا يحدث عندما يُترك الناس دون سلطة مركزية، ليبنوا حياتهم وفقًا لقواعدهم؟” كانت المدينة بمثابة تجربة اجتماعية معمارية حيّة، فيها ما هو فوضوي، لكن أيضًا ما هو عجيب وفعّال، رغم الظروف القاسية.
خاتمة
مدينة كولون المسوّرة لم تكن مجرد تجمع سكني، بل كانت كائنًا حيًا ينبض وسط الفوضى. واليوم، بعد أكثر من 30 عامًا على اختفائها، ما زال العالم يتحدث عنها، يرسمها، يُحاكيها، ويستوحي منها أفكاره.
إنها مدينة تتحدى النسيان، ودرسٌ حضريّ عن الحدود بين النظام والفوضى، بين القهر والتحرر، وبين الواقع والأسطورة.
اضف تعليق